الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} الخ تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم بعد أن قضى الوطر من ذكر الأجوبة الحكمية عن مطاعنهم في النبوة وما أدمج فيها من المعاني التي هي لباب المقاصد وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قضى ما عليه من عهدة الإبلاغ وأنه المنصور في العاقبة ولهذا بدىء بذكر أجلة الأنبياء عليهم السلام للتأسي وختم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزبور} [الأنبياء: 105] الخ، وتصدير ذلك بالقصم لزيادة تحقيق مضمونه.وتنوين الرسل للتفخيم والتكثير.ومن متعلقة بمحذوف هو صفة له أي وبالله لقد استهزىء إليه مقامه {فَحَاقَ} أي أحاط عقيب ذلك أو نزل أو حل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر.والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله.وقيل: أصل حاق حق كزال وزل وذام وذم.وقوله تعالى: {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ} أي من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بـ حاق.وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى: {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم.و{مَا} إما موصولة مفيدة للتهويل والضمير المجرور عائد عليها والجار متعلق بـ الفعل بعده وتقديمه لرعاية الفواصل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله.وإما مصدرية فالضمير راجع إلى جنس الرسول المدلول عليه بالجمع كما قالوا.ولعل إيثار الإفراد على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاء استهزائهم بكل واحد منهم عليهم السلام لأجزاء استهزائهم بكلهم من حيث هو فقط أي فنزل بهم جزاء استهزائهم على وضع السبب موضع المسبب إيذانًا بكمال الملابسة بينهما أو عين استهزائهم إن أريد بذلك العذاب الأخروي بناءً على ظهور الأعمال في النشأة الأخروية بصور مناسبة لها في الحسن والقبح.{قُلْ} أمر له صلى الله عليه وسلم أن يسأل أولئك المستهزئين سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغتروا بما غشيهم من نعم الله تعالى ويقول: {مَن يَكْلَؤُكُم} أي يحفظكم {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل} أي من بأسه بقرينة الحفظ، وتقديم الليل لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعًا وأشد وقعًا.وفي التعرض لعنوان الرحمانية تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته تعالى وتلقين للجواب كما قيل في قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} [الانفطار: 6] وقيل إن ذلك إيماءً إلى أن بأسه تعالى إذا أراد شديد أليم ولذا يقال نعوذ بالله عز وجل من غضب الحليم وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته ودلالة على شدة خبثهم.وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة {يكلوكم} بضمة خفيفة من غير همز، وحكى الكسائي والفراء {يكلوكم} بفتح اللام وإسكان الواو، وقوله تعالى: {الرحمن بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ} إضراب عن ذلك تسجيلًا عليهم بأنهم ليسوا من أهل السماع وأنهم قوم ألهتهم النعم عن المنعم فلا يذكرونه عز وجل حتى يخافوا بأسه أو يعدوا ما كانوا فيه من الأمن وال، عة حفظًا وكلاءة ليسألوا عن الكالىء على طريقة قوله:وفيه أنهم مستمرون على الإعراض ذكروا ونبهوا أولًا، وفي تعليق الإعراض بذكره تعالى وإيراد اسم الرب المضاف إلى ضميره المنبىء عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصية من الضلالة والغي ما لا يخفى، وقيل إنه إضراب عن مقدر أي أنهم غير غافلين عن الله تعالى حتى لا يجدي السؤال عنه سبحانه كيف وهم إنما اتخذوا الآلهة وعبدوها لتشفع لهم عنده تعالى وتقربهم إليه زلفى بل هم معرضون عن ذكره عز وجل فالتذكير يناسبهم، وهذا مع ظهوره من مساق الكلام ووضوح انطباقه على مقتضى المقام قد خفي عن الناظرين وغفلوا عنه أجمعين.اهـ.وتعقب بأن السياق لتجهيلهم والتسجيل عليهم بأنهم إذا ذكروا لا يذكرون ألا يرى قوله تعالى: {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء} [الأنبياء: 45] وما ذكر يقتضي العكس لتضمنه وصفهم بإجداء الإنذار والدعاء مع أن قوله غير غافلين مناف لما يدل عليه النظم الكريم فالحق ما تقدم.{أَمْ لَهُمْ ءالِهَةً تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا}.إعراض عن وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظ إليها، فأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة و{لَهُمْ} خبر مقدم و{ءالِهَةً} مبتدأ وجلمة {تَمْنَعُهُمْ} صفته و{مّن دُونِنَا} قيل صفة بعد صفة أي بل ألهم آلهة مانعة لهم متجاوزة منعنا أو حفظنا فهم معولون عليها واثقون بحفظها، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا والأصل أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، وعليه يكون {مّن دُونِنَا} صفة أيضًا، وقال الحوفي: أنه متعلق بـ: {تمنعهم} أي بل ألهم آلهة تمنعهم من عذاب من عندنا، والاستفهام لإنكار أن يكون لهم آلهة كذلك، وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة الموصوفة بما ذكر لا إلى نفس الصفة بأن يقال أم تمنعهم آلهتهم الخ من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلًا عن رتبة المنع ما لا يخفى.وقال بعض الأجلة: إن الإضراب الذي تضمنته {أَمْ} عائد على الأمر بالسؤال كالإضراب السابق لَكِنه أبلغ منه من حيث أن سؤال الغافل عن الشيء بعيد وسؤال المعتقد لنقيضه أبعد، وفهم منه بعضهم أن الهمزة عليه للتقرير بما في زعم الكفرة تهكمًا.وتعقب أنه ليس بمتعين فيجوز أن يكون للإنكار لا بمعنى أنه لم يكن منهم زعم ذلك بل بمعنى أنه لم كان مثله مما لا حقيقة له، والأظهر عندي جعله عائدًا على الوصف بالإعراض كما سمعت أولًا.وفي الكشف ضمن الإعراض عن وصفهم بالإعراض إنكاره أبلغ الإنكار بأنهم في إعراضهم عن ذكره تعالى كمن له كالىء يمنعه عن بأسنا معرضًا فيه بجانب آلهتهم وأنهم أعرضوا عنه تعالى واشتغلوا بهم ولهذا رشح بما بعد كأنه قيل دع حديث الإعراض وانظر إلى من أعرضوا عن ربهم سبحانه إليه فإن هذا أطم وأطم فتأمله فإنه دقيق.وقوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} استئناف مقرر لما قبله من الإنكار أي لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ويدفعوا عنها ما ينزل بها ولا هم منا يصحبون بنصر أو بمن يدفع عنهم ذلك من جهتنا فهم في غاية العجز وغير معتنى بهم فكيف يتوهم فيهم ما يتوهم، فالضمائر للآلهة بتنزيلهم منزلة العقلاء وروي عن قتادة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها للكفرة على معنى لا يستطيع الكفار نصر أنفسهم بآلهتهم ولا يصحبهم نصر من جهتنا، والأول أولى بالمقام وإن كان هذا أبعد عن التفكيك، و{مِنَّا} على القولين يحتمل أن يتعلق بالفعل بعده وأن يتعلق بمقدر وقع صفة لمحذوف.{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} الخ.إضراب على ما في الكشف عن الضرب السابق من الكلام إلى وعيدهم وأنهم من أهل الاستدراج وأخرجهم عن الخطاب عدم مبالاة بهم، وفي العدول إلى الإشارة عن الضمير إشارة إلى تحقيرهم.وفي غير كتاب أنه إضراب عما توهموه من أن ما هم فيه من الكلاءة من جهة أن لهم آلهة تمنعهم من تطرق البأس إليهم كأنه قيل دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم بل ما هم فيه من الحفظ منا لا غير حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السراء لكونهم من أهل الاستدراج والانهماك فيما يؤديهم إلى العذاب الأليم.ويحتمل أن يكون إضرابًا عما يدل عليه الاستئناف السابق من بطلان توهمهم كأنه قيل دع ما يبين بطلان توهمهم من أن يكون لهم آلهة تمنعهم واعلم أنهم إنما وقعوا في ورطة ذلك التوهم الباطل بسبب أنا منعناهم بما يشتهون حتى طالت مدة عمارة أبدانهم بالحياة فحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا وأعرضوا عن الحق واتبعوا ما سولت لهم أنفسهم وذلك طمع فارغ وأمل كاذب {أَفَلاَ يَرَوْنَ} أي ألا ينظرون فلا يرون {أَنَّا نَأْتِى الأرض} أي أرض الكفرة أو أرضهم {نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} بتسليط المسلمين عليها وحوز ما يحوزونه منها ونظمه في سلك ملكهم، والعدول عن أنا ننقص الأرض من أطرافها إلى ما في النظم الجليل لتصوير كيفية نقصها وانتزاعها من أيديهم فإنه بإتيان جيوش المسلمين واستيلائهم، وكان الأصل يأتي جيوش المسلمين لَكِنه أسند الإتيان إليه عز وجل تعظيمًا لهم وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاهـ. وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين.والآية كما قدمنا أول السورة مدنية وهي نازلة بعد فرض الجهاد فلا يرد أن السورة مكية والجهاد فرض بعدها حتى يقال: إن ذلك إخبار عن المستقبل أو يقال: إن المراد ننقصها بإذهاب بركتها كما جاء في رواية عن ابن عباس أو بتخريب قراها وموت أهلها كما روي عن عكرمة، وقيل ننقصها بموت العلمخاء وهذا إن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنه وإلا فالأظهر نظرًا إلى المقام ما تقدم ويؤيده قوله تعالى: {أَفَهُمُ الغالبون} على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم، وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها. اهـ. .قال القاسمي: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ} أي: نزل: {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي عذابه أو جزاؤه، على وضع السبب موضع المسبب، إيذانًا بكمال الملابسة بينهما، أو عين استهزائهم، إن أريد بذلك العذاب الأخرويّ، بناءً على تجسم الأعمال. فإن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصورة عرضية، تبرز في النشأة الأخرى بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. أفاده أبو السعود.{قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ} أي: يحفظكم: {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} أي: من بأسه أي: يفجأكم. وتقديم الليل لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعًا وأشد وقعًا. وفي لفظ الرحمن تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته، وتلقين للجواب. وقيل إنه إيماء إلى شدته. كغضب الحليم. وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته. ودلالة على شدة خبثهم. قال المهايميّ: ولا يمنع من ذلك عموم رحمته. إذ بتعذيبكم يعتبر أهل عصركم ومَن بعدهم. فيكون لإصلاح أمورهم الموجب لرحمته عليهم، ولا يغترون في ذلك بعموم رحمته حتى يرجى منعها عن ذلك: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} أي: لا يخطرونه ببالهم، فضلًا أن يخافوا بأسه، ويعدوا ما هم عليه من الأمن والدعة حفظًا وكلاءة، حتى يُسْألُوا عن الكالئ: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي: لهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم، إن نحن أحللنا بهم عذابنا وأنزلنا بهم بأسنا، من دوننا. ومعناه: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا. ثم وصف جل ثناؤه تلك الآلهة بالضعف والمهانة وما هي به من صفتها. ومعناه: كيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا، وهي لا تستطيع نصر أنفسها ولا هي بمصحوبة منا بالنصر والتأييد. أفاده ابن جرير. فـ: فيصحبون بمعنى يجارون يقال: صحبك الله، أي: أجارك وسلمك، كما في الأساس. قال ابن جرير: أي: لا يصحبون بالجوار لأن العرب محكي عنها: أنا لك جار من فلان وصاحب، بمعنى: أجيرك وأمنعك. وهم إذا لم يصحبوا بالجوار لم يكن لهم مانع من عذاب الله، مع سخطه عليهم، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا.{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} إضراب عما توهموا، ببيان أن الداعي إلى غيهم وعنادهم هو ما متعوا به في الحياة الدنيا ونعّموا به هم ومن قبلهم حتى طال عليهم الأمد. لا تأتيهم واعظة من عذاب ولا زاجرة من عقاب حتى حسبوا أنهم على شيء وأنهم لا يغلبون: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنْقُصُهَا مِنْ أطرافها} أي: ننقص أرض الكفر فنخربها من نواحيها بقهرنا أهلها وغلبتنا لهم وإجلائهم عنها وقتلهم بالسيوف، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف. أفاده ابن جرير. وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكِنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27]، وقوله تعالى: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أي: أفهؤلاء المشركون المستعجلون بالعذاب، الغالبون لنا، وقد رأوا قهرنا مَن أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرض؟وفي التعريف تعريض بأنه تعالى هو الغالب المعروف بالقهر. اهـ.
|